فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالث: أنها نزلت في قوم كانوا يتحرجون أن يأكلوا جميعًا ويعتقدون أنه ذنب ويأكل كل واحد منهم منفردًا، فنزل ذلك فيهم، حكاه النقاش.
الرابع: أنها نزلت في قوم مسافرين اشتركوا في أزوادهم فكان إذا تأخر أحدهم أمسك الباقون عن الأكل حتى يحضر، فنزل ذلك فيهم ترخيصًا للأكل جماعة وفرادى.
{فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا} فيها قولان:
أحدهما: أنه المساجد.
الثاني: أنها جميع البيوت.
{فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} فيه خمسة أقاويل:
أحدها: يعني إذا دخلتم بيوت أنفسكم فسلموا على أهاليكم وعيالكم، قاله جابر.
الثاني: إذا دخلتم المساجد فسلموا على من فيها، وهذا قول ابن عباس.
الثالث: إذا دخلتم بيوت غيركم فسلموا عليهم، قاله الحسن.
الرابع: إذا دخلتم بيوتًا فسلموا على أهل دينكم، قاله السدي.
الخامس: إذا دخلتم بيوتًا فارغة فسلموا على أنفسكم وهو أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، قاله ابن عمر، وإبراهيم، وأبو مالك، وقيل: سلامه على نفسه أن يقول: السلام علينا من ربنا تحية من عند الله.
وإذا سلم الواحد من الجماعة أجزأ عن جميعهم، فإذا دخل الرجل مسجدًا ذا جمع كثير سلم يسمع نفسه، وإذا كان ذا جمع قليل أسمعهم أو بعضهم.
قال الحسن: كان النساء يسلمن على الرجال ولا يسلم الرجال على النساء، وكان ابن عمر يسلم على النساء، ولو قيل لا يسلم أحد الفريقين على الآخر كان أولى لأن السلام مواصلة.
{تَحِيَّةً مِنْ عِندِ اللَّهِ} فيه أربعة أقاويل:
أحدها: يعني أن السلام اسم من أسماء الله تعالى.
الثاني: أن التحية بالسلام من أوامر الله.
الثالث: أن الرد عليه إذا سلم دعاء له عند الله.
الرابع: أن الملائكة ترد عليه فيكون ثوابًا من عند الله.
{مُبَارَكَةً} فيها وجهان:
أحدهما: لما فيها من الثواب الجزيل.
الثاني: لما يرجى من ثواب الدعاء.
{طَيِّبَةً} يحتمل وجهين:
أحدهما: لما فيها من طيب العيش بالتواصل.
الثاني: لما فيها من طيب الذكر والشأن. اهـ.

.قال ابن عطية:

{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}.
اختلف الناس في المعنى الذي رفع الله فيه الحرج عن الأصناف الثلاثة، فظاهر الآية وأمر الشريعة أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر وتقتضي نيتهم الإتيان بالأكمل، ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا. فأما ما قال الناس في هذا الحرج هنا فقال ابن زيد هو الحرج في الغزو أي لا حرج عليهم في تأخرهم، وقوله: {ولا على أنفسكم} الآية معنى مقطوع من الأول، وقالت فرقة الآية كلها في معنى المطاعم قال وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الأكل مع أهل الأعذار فبعضهم كان يفعل ذلك تقذرًا لجولان اليد من {الأعمى} ولانبساط الجلسة من {الأعرج} ولرائحة المريض وعلاته وهي أخلاق جاهلية وكبر، فنزلت مؤيدة، وبعضهم كان يفعل ذلك تحرجًا من غبن أهل الأعذار إذ هم مقصرون في الأكل عن درجة الأصحاء لعدم الرؤية في {الأعمى} وللعجز عن المزاحمة في {الأعرج} ولضعف المريض فنزلت الآية في إباحة الأكل معهم، وقال ابن عباس في كتاب الزهراوي أن أهل هذه الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس لأجل عذرهم فنزلت الآية مبيحة لهن، وقال ابن عباس أيضًا الآية من أولها إلى آخرها إنما نزلت بسبب أن الناس، لما نزلت {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188] قالوا لا مال أعز من الطعام وتحرجوا من أن يأكل أحد مع هؤلاء فيغبنهم في الأكل فيقع في أكل المال بالباطل، وكذلك تحرجوا عن أكل الطعام القرابات لذلك فنزلت الآية مبيحة جميع هذه المطاعم ومبينة تلك إنما هي في التعدي والقمار وكل ما يأكله المرء من مال الغير والغير كاره أو بصفة فاسدة ونحوه، وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قوله في الأصناف الثلاثة إنما نزلت بسبب أن الناس كانوا إذا نهضوا إلى الغزو، خلفوا أهل العذر في منازلهم وأموالهم، فكان أهل العذر يتجنبون أكل مال الغائب، فنزلت الآية مبيحة لهم أكل الحاجة من طعام الغائب إذا كان الغائب قد بنى على ذلك، وقيل كان الرجل إذا ساق أهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئًا ذهب بهم إلى بيت قرابته فتحرج أهل الأعذار من ذلك، فنزلت الآية وذكر الله تعالى بيوت القرابات وسقط منها بيوت الأبناء، فقال المفسرون ذلك داخل في قوله: {من بيوتكم} لأن بيت ابن الرجل بيته، وقرأ طلحة بن مصرف {إمهاتكم} بكسر الهمزة وقوله: {أم ما ملكتم مفاتحه} يعني ما حزتم وصار في قبضتكم، فعظمه ما ملكه الرجل في بيته وتحت غلقه وذلك هو تأويل الضحاك ومجاهد، وعند جمهور المفسرين يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والأجراء بالمعروف، وقرأ جمهور الناس {مَلَكتم} بفتح الميم واللام، وقرأ سعيد بن جبير {مُلِّكتم} بضم الميم وكسر اللام وشدها، وقرأ جمهور الناس {مفاتحه} وقرأ سعيد بن جبير {مفاتيحه} بياء بين التاء والحاء الأولى على جمع مَفتح والثانية على جمع مُفتاح، وقرأ قتادة {ملكتم مفاتحه} وقرن تعالى في هذه الآية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة لأن قرب المودة لصيق، قال معمر: قلت لقتادة ألا أشرب من هذا الجب؟ قال أنت لي صديق فما هذا الاستئذان؟ قال ابن عباس في كتاب النقاش الصديق أوكد من القرابة، ألا ترى إلى استغاثة الجهنميين.
{فما لنا من شافعين ولا صديق حميم} [الشعراء: 100] وقوله: {ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعًا أو أشتاتًا} رد لمذهب جماعة من العرب كانت لا تأكل أفرادًا البتة، قاله الطبري، ومن ذلك قول بعض الشعراء: [الطويل].
إذا صنعت الزاد فالتمسي له ** أكيلًا فإني لست آكله وحدي

وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه فنزلت هذه الآية مبينة سنة الأكل ومذهبة كل ما خلفها من سنة العرب، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرمًا نحت به نحو كرم الخلق فأفرطت في إلزامه وأن إحضار الأكيل لحسن ولكن بأن لا يحرم الانفراد، وقال بعض أهل العلم هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» وبقوله تعالى: {لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا} [النور: 27] وبقوله عليه السلام من حديث ابن عمر «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» الحديث، ثم ختم الله تعالى الآية بتبيينه سنة السلام في البيوت، واختلف المتأولون في أي البيوت أراد، فقال إبراهيم النخعي أراد المساجد، والمعنى سلموا على من فيها من صنفكم فهذا كما قال {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} [التوبة: 128] فإن لم يكن في المساجد أحد فالسلام أن يقول المرء السلام على رسول الله وقيل السلام عليكم يريد الملائكة ثم يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين قوله: {تحية} مصدر ووصفها بالبركة لأن فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم عليه والكاف من قوله: {كذلك} كاف تشبيه وذلك إشارة إلى هذه السنن أي كهذا الذي وصف يطرد تبيين الآيات {لعلكم} تعقلونها وتعملون بها، وقال بعض الناس في هذه الآية إنها منسوخة بآية الاستئذان الذي أمر به الناس وهي المقدمة في السورة، فإذا كان الإذن محجورًا فالطعام أحرى، وكذلك أيضًا فرضت فرقة نسخًا بينها وبين قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188].
قال الفقيه الإمام القاضي: والنسخ لا يتصور في شيء من هذه الآيات بل هي كلها محكمة، أما قوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188] ففي التعدي والخدع والإغرار واللهو والقمار ونحوه، وأما هذه الآية ففي إباحة هذه الأصناف التي يسرها استباحة طعامها على هذه الصفة، وأما آية الإذن فعلة إيجاب الاستئذان خوف الكشف فإذا استأذن الرجل خوف الكشفة ودخل المنزل بالوجه المباح صح له بعد ذلك أكل الطعام بهذه الإباحة وليس يكون في الآية نسخ فتأمله. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {ليس على الأعمى حَرَجٌ}.
في سبب نزولها خمسة أقوال:
أحدها: أنه لمّا نزل قوله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [النساء: 29] تحرَّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزَّمنى والعُمْي والعُرْج، وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يُبْصِر موضع الطعام الطيِّب، والمريض لا يستوفي الطعام، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
والثاني: أن ناسًا كانوا إِذا خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم إِذا احتاجوا، فكانوا يَتَّقون أن يأكُلوا منها، ويقولون: نخشى أن لا تكون أنفُسُهم بذلك طيِّبة، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن المسيب.
والثالث: أن العُرجان والعُميان كانوا يمتنعون عن مؤاكلة الأصحاء، لأن الناس يتقذَّرونهم، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، والضحاك.
والرابع: أن قومًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إِذا لم يكن عندهم ما يُطعمون المريض والزَّمِن، ذهبوا به إِلى بيوت آبائهم وأُمهاتهم وبعض من سمَّى اللّهُ عز وجل في هذه الآية، فكان أهل الزمَّانَة يتحرَّجون من أكل ذلك الطعام لأنه أطعمهم غير مالكه، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.
والخامس: أنها نزلت في إِسقاط الجهاد عن أهل الزمَّانَة المذكورين في الآية، قاله الحسن، وابن زيد.
فعلى القول الأول يكون معنى الآية: ليس عليكم في الأعمى حرج أن تأكلوا معه، ولا في الأعرج، وتكون على بمعنى في، ذكره ابن جرير.
وكذلك يخرَّج معنى الآية على كل قول بما يليق به.
وقد كان جماعة من المفسرين يذهبون إلى أن آخر الكلام {ولا على المريض حرج} وأن ما بعده مستأنَف لا تعلُّق له به، وهو يقوِّي قول الحسن، وابن زيد.
قوله تعالى: {أن تأكُلوا من بيوتكم} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها بيوت الأولاد.
والثاني: البيوت التي يسكنونها وهم فيها عيال غيرهم، فيكون الخطاب لأهل الرجل وولده وخادمه، ومَن يشتمل عليه منزله، ونسبها إِليهم لأنهم سكّانها.
والثالث: أنها بيوتهم والمراد أكلُهم من مال عيالهم وأزواجهم، لأن بيت المرأة كبيت الرجل.
وإِنما أباح الأكل من بيوت القرابات المذكورين، لجريان العادة ببذل طعامهم لهم؛ فإن كان الطعام وراء حِرْزٍ، لم يجز هتك الحرز.
قوله تعالى: {أو مَا مَلَكْتُمْ مفاتحه} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الوكيل، لا بأس أن يأكل اليسير، وهو معنى قول ابن عباس.
وقرأها سعيد بن جبير، وأبو العالية: {مُلِّكْتُمْ} بضم الميم وتشديد اللام مع كسرها على ما لم يسمَّ فاعله، وفسَّرها سعيد فقال: يعني القهرمان الذي بيده المفاتيح.
وقرأ أنس بن مالك، وقتادة، وابن يعمر {مِفْتَاحَه} بكسر الميم على التوحيد.
والثاني: بيت الإِنسان الذي يملكه، وهو معنى قول قتادة.
والثالث: بيوت العبيد، قاله الضحاك.
قوله تعالى: {أو صَدِيقِكُمْ} قال ابن عباس: نزلت هذه في الحارث بن عمرو، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيًا، وخلَّف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودًا، فقال: تحرَّجْتُ أن آكل من طعامك بغير إِذنك، فنزلت هذه الآية.
وكان الحسن وقتادة يريان الأكل من طعام الصَّديق بغير استئذان جائزًا.
قوله تعالى: {ليس عليكم جُنَاحٌ أن تأكُلوا جميعًا} في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: أن حيًّا من بني كنانة يقال لهم: بنو ليث كانوا يتحرَّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده؛ فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إِلى الرَّواح، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة والضحاك.
والثاني: أن قومًا من الأنصار كانوا لا يأكلون إِذا نزل بهم ضيف إِلا مع ضيفهم، فنزلت هذه الآية، ورخِّص لهم أن يأكلوا جميعًا أو أشتاتًا، قاله عكرمة.
والثالث: أن المسلمين كانوا يتحرَّجون من مؤاكلة أهل الضُّرِّ خوفًا من أن يستأثروا عليهم، ومن الاجتماع على الطعام، لاختلاف الناس في مآكلهم وزيادةِ بعضهم على بعض، فوسِّع عليهم، وقيل: {ليس عليكم جُناح أن تأكُلوا جميعًا} أي: مجتمعين {أو أشتاتًا} أي: متفرِّقين، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتًا} فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها بيوت أنفسكم، فسلِّموا على أهاليكم وعيالكم، قال جابر بن عبد الله، وطاووس، وقتادة.
والثاني: أنها المساجد، فسلِّموا على مَنْ فيها، قاله ابن عباس.
والثالث: بيوت الغير؛ فالمعنى: إِذا دخلتم بيوت غيركم فسلِّموا عليهم، قاله الحسن.
قوله تعالى: {تحيةً} قال الزجاج: هي منصوبة على المصدر، لأن قوله: {فسلِّموا} بمعنى: فحيُّوا وَلْيُحَيِّ بعضكم بعضًا تحيَّةً، {من عند الله} قال مقاتل: مباركة بالأجر، {طيبةً} أي: حسنة. اهـ.